عندما جرى إسقاط حُكم الشاه محمد رضا بهلوي والنظام الملكي في إيران في العام 1979، وتأسيس "الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة"، إلتقت مصالح الولايات المتحدة الأميركية والعديد من الدُول الغربيّة من جهة، مع مصالح العديد من الدول العربيّة والخليجيّة من جهة أخرى، لمُواجهة إرتدادات هذه "الثورة" ولمنع تصديرها إلى الكثير من دول المنطقة. وإذا كانت أميركا والدول الغربيّة إختارت طريق العُقوبات والحصار الإقتصادي والمالي على إيران، ردًا على ضرب مصالحها الحيويّة في المنطقة، فإنّ الدُول الخليجيّة وقفت خلف نظام حُكم الدكتاتور العراقي صدام حسين وواجهت إيران عسكريًا- ولو بالواسطة وبأسلوب غير مُباشر، وذلك ردًا على مُحاولات طهران تصدير "ثورتها" إلى دول المنطقة وزعزعة أنظمة الحُكم فيها. وبعد مرور نحو 35 سنة تقف علاقات إيران الإقليميّة والدَوليّة أمام مُفترق جديد، بعد أنّ إختارت واشنطن والعواصم الغربيّة الأخرى طريقًا مُغايرًا مع إيران، غَير مسار المُواجهة والضغط والعداء. فماذا ستكون الإرتدادات والإنعكاسات الإقليميّة، وماذا بقي للدول الخليجيّة والعربيّة من خيارات؟
لا شك أنّ دُخول مسألة رفع العقوبات الإقتصادية والمالية الدَوليّة والأمَمِيّة بمختلف فئاتها وأشكالها مرحلة التنفيذ، سينعكس إيجابًا على "الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة" على مُختلف الصُعد. فإيران التي عانت الأمرّين من الحصار الذي كان مُفروضًا عليها، على الرغم من رفضها الإقرار بذلك بأيّ وقت من الأوقات على مدى ثلاثة عُقود، ستتنفّس الصُعداء في المُستقبل بشكل كبير. فقد جرى الإفراج عن الأموال الضخمة العائدة لها والتي كانت مُجمّدة في الخارج، وتمّ السماح برفع حجم تصدير المُشتقات النفطيّة الإيرانيّة. وباتت الشركات الغربيّة تتنافس على الإستثمار في إيران، نظرًا إلى الحاجة الكبرى لتجديد الكثير من القطاعات فيها، وصفقة شراء 114 طائرة "آيرباص" هي باكورة هذه الصفقات الضخمة المُتوقّعة مع الغرب. وفتح العلاقات التجارية والإقتصادية والمالية بين العالم الغربي وإيران، يعني حُكمًا طيّ صفحة العداء السابق، ما سيقود بدوره إلى إخراج الضغوط السياسيّة الغربيّة من مسرح الأحداث. وكل ما سبق يعني بالتأكيد إطلاق يد إيران في المنطقة بقوّة أكبر وبزخم أكثر فعاليّة من أيّ وقت مضى، حيث أنّ المَصَالح الغربيّة المُستجدّة في إيران ستجعلها مُكبّلة الأيدي في أيّ صراع إقليمي حالي أو مُستقبلي.
وبالتالي، إنّ محاولات تصدير "الثورة" الإيرانيّة إلى دول المنطقة ستمضي قُدمًا من الآن فصاعدًا من دون أيّ ضُغوط غربيّة تُذكر، ما يعني أنّ المُواجهة الإيرانيّة مع الدول العربيّة والخليجيّة في المرحلة الحاليّة وفي المُستقبل القريب، ستكون مُختلفة تمامًا عن المُواجهة التي وقعت منذ مطلع حقبة الثمانينات إمتداداً حتى الماضي القريب، أي حتى تاريخ توقيع الإتفاق الغربي-الإيراني بشأن الملف النووي. فالدول العربيّة والخليجيّة باتت وحدها في هذه المُواجهة، وقد نجحت إيران في جعل نفسها جزءًا من الحرب الدَوليّة على "الإرهاب"، وكذلك في تأسيس قوى عسكريّة شبه نظاميّة مُوالية لها وقوامها نحو مئتي ألف مُقاتل في العديد من الدول العربيّة، كما أقرّ القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري في تصريح له أخيرًا، بحيث صار دور طهران ضروريًا وحيويًّا للإستقرار الإقليمي، وقدرتها على العرقلة وعلى زعزعة الأمن كبيرة جدًا.
وأمام هذه التحوّلات الإستراتيجيّة الكبرى، صار الموقف العربي والخليجي بالتحديد، محصورًا بهامش ضيّق، يتراوح بين الإنصياع للإنفلاش الإيراني المُتصاعد في دول المنطقة عبر أحزاب عقائدية ومذهبيّة مُسلّحة ومُموّلة ومُدرّبة من قبل طهران، وبالتالي مُوالية حُكمًا لها، والذهاب إلى مُفاوضات وتسويات تصبّ في صالح إيران وحلفائها في المنطقة، أو إعتماد خيار المُواجهة العسكريّة المُسلّحة غير المُباشرة عبر دعم وتمويل وتسليح قوى وجماعات مُناهضة لها. وما تشهده دول المنطقة حاليًا، من لبنان إلى سوريا، ومن اليمن إلى العراق، ومن أفغانستان إلى باكستان، والذي يتراوح بين حال عدم الإستقرار والتوتّر وحال الحرب العسكريّة المفتوحة، هو ترجمة مَيدانيّة لهذا الصراع السياسي والعقائدي والمذهبي. والمسألة ليست محصورة بين إيران والسعوديّة، بل تشمل طهران ومن معها من دول وجماعات مُسلّحة، والسعودية ومن معها من دول عربيّة وإسلاميّة ومن جماعات مُسلّحة أيضًا.
وفي الخلاصة، يُمكن القول إنّ الإتفاق الغربي-الإيراني سينعكس حتمًا تراخيًا دوليًا إزاء تحرّكات إيران الإقليميّة وغضّ نظر عن كثير منها، بسبب التداخل المُباشر لكثير من المصالح المُشتركة المُستجدّة. وهذا يعني فعليًّا على الأرض أنّ زخم تصدير "الثورة" الإيرانيّة سيتجدّد بقوّة في المرحلة المُقبلة، مُستفيدًا من الموقف السياسي الغربي المُتغيّر، ومن قُدرة تمويل ماليّة ضخمة بعد رفع العُقوبات، ومن نموّ قُدرات الجماعات المُسلّحة المُوالية لطهران والتي تعمل بفعاليّة في الكثير من الدول العربيّة وتحاول إيجاد موطئ قدم لها في دُول أخرى. وأمام هذا الواقع، لا خيار أمام الدول العربيّة والخليجيّة المُناهضة سياسيًا وعقائديًا ومذهبيًا لإيران سوى مُواجهتها عبر دعم مُقابل لجماعات أخرى تنصب العداء لطهران ولحلفائها، وعبر الدخول في تحالفات "تلاقي المصالح المُشتركة" والتي كانت مُستحيلة حتى الأمس القريب، كما هي الحال بين السعودية وتركيا حاليًا على سبيل المثال لا الحصر. وباختصار: إنه زمن المُواجهة المُتصاعدة وليس زمن الحلول والتسويات كما يظنّ الكثيرون.